فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (103):

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
الْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ، أَيْ: نُخْبِرُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، أَيْ: بِالَّذِينَ هُمْ أَخْسَرُ النَّاسِ أَعْمَالًا وَأَضْيَعُهَا، فَالْأَخْسَرُ صِيَغَةُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْخُسْرَانِ وَأَصْلُهُ نَقْصُ مَالِ التَّاجِرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ غَبْنُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ فِي حُظُوظِهِمْ مِمَّا عِنْدَ اللَّهِ لَوْ أَطَاعُوهُ، وَقَوْلُهُ: أَعْمَالًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ:
فَإِنْ قِيلَ: نَبِّئْنَا بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا مَنْ هُمْ؟
كَانَ الْجَوَابُ: هُمُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ: {الَّذِينَ} مِنْ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [18/ 104]، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الذَّمِّ، وَجَرُّهُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْأَخْسَرِينَ، أَوْ نَعْتٌ لَهُ، وَقَوْلُهُ: ضَلَّ سَعْيُهُمْ، أَيْ: بَطَلَ عَمَلُهُمْ وَحَبِطَ، فَصَارَ كَالْهَبَاءِ وَكَالسَّرَابِ وَكَالرَّمَادِ! كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [25/ 23]،
وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} الْآيَةَ [24/ 39]، وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [14/ 18]، وَمَعَ هَذَا فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عَمَلَهُمْ حَسَنٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللَّهِ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُفْرَهُمْ صَوَابٌ وَحَقٌّ، وَأَنَّ فِيهِ رِضَا رَبِّهِمْ، كَمَا قَالَ عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [39/ 3]، وَقَالَ عَنْهُمْ: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [10/ 18]، وَقَالَ عَنِ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ عَلَى غَيْرِ شَرْعٍ صَحِيحٍ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} الْآيَةَ [88/ 2- 4]، عَلَى الْقَوْلِ فِيهَا بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [7/ 30]، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [43/ 37]، وَالدَّلِيلُ عَلَى نُزُولِهَا فِي الْكُفَّارِ تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ يَلِيهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} الْآيَةَ [18/ 105]، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الْكُفَّارُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمُ الرُّهْبَانُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْكَافِرُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ ذَلِكَ تَشْمَلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَهُ ابْنُهُ مُصْعَبٌ عَنِ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ فَقَالَ لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا لَا طَعَامَ فِيهَا، وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَكَانَ سَعِيدٌ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ، اهـ. مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ الْمَعْرُوفُونَ بِالْحَرُورِيِّينَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَكُونُ فِيهِمْ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ بِقَدْرِ مَا فَعَلُوا؛ لِأَنَّهُمْ يَرْتَكِبُونَ أُمُورًا شَنِيعَةً مِنَ الضَّلَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا هِيَ مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَقَدْ ضَلَّ سَعْيُهُمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَإِنْ كَانُوا فِي ذَلِكَ أَقَلَّ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُجَاهِرِينَ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ كَمَا قَدْ قَدَّمَنَا إِيضَاحَهُ وَأَدِلَّتَهُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [18/ 104]، أَيْ: بَطَلَ وَاضْمَحَلَّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الضَّلَالَ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ثَلَاثَةَ إِطْلَاقَاتٍ:
الْأَوَّلُ: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الذَّهَابِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى طَرِيقِ الْبَاطِلِ، كَالذَّهَابِ عَنْ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [1/ 7]، وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ 5} [5/ 77].
الثَّانِي: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ وَالْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: ضَلَّ السَّمْنُ فِي الطَّعَامِ إِذَا اسْتَهْلَكَ فِيهِ وَغَابَ فِيهِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [6/ 24]، أَيْ: غَابَ وَاضْمَحَلَّ، وَقَوْلُهُ هُنَا: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [18/ 104]، أَيْ: بَطَلَ وَاضْمَحَلَّ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيَارُ ** عَنِ الْحَيِّ الْمُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا

أَيْ: عَنِ الْحَيِّ الَّذِي غَابَ وَاضْمَحَلَّ، وَمِنْ هُنَا سُمِّيَ الدَّفْنُ إِضْلَالًا؛ لِأَنَّ مَآلَ الْمَيِّتِ الْمَدْفُونِ إِلَى أَنْ تَخْتَلِطَ عِظَامُهُ بِالْأَرْضِ، فَيَضِلَّ فِيهَا كَمَا يَضِلُّ السَّمْنُ فِي الطَّعَامِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الضَّلَالِ عَلَى الدَّفْنِ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ** وَغُودِرَ بِالْجَوَلَانِ حَزْمٍ وَنَائِلِ

فَقَوْلُهُ مُضِلُّوهُ يَعْنِي دَافِنِيهِ فِي قَبْرِهِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} الْآيَةَ [32/ 10]، فَمَعْنَى ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَنَّهُمُ اخْتَلَطَتْ عِظَامُهُمُ الرَّمِيمُ بِهَا فَغَابَتْ وَاسْتَهْلَكَتْ فِيهَا.
الثَّالِثُ: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الذَّهَابِ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْمُطَابِقَةِ لِلْوَاقِعِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [93/ 7]، أَيْ: ذَاهِبًا عَمَّا تَعْلَمُهُ الْآنَ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْوَحْيِ فَهَدَاكَ إِلَى تِلْكَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ بِالْوَحْيِ، وَحَدَّدَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [12/ 95]، أَيْ: ذَهَابُكَ عَنِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ أَمْرِ يُوسُفَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَطْمَعُ فِي رُجُوعِهِ إِلَيْكَ؛ وَذَلِكَ لَا طَمَعَ فِيهِ عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [2/ 282]، أَيْ: تَذْهَبُ عَنْ حَقِيقَةِ عِلْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنِسْيَانٍ أَوْ نَحْوِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [2/ 282]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [20/ 52]، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا ** بَدَلًا أُرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ

فَقَوْلُهُ أُرَاهَا فِي الضَّلَالِ: أَيْ: الذَّهَابِ عَنْ عَلَمِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ حَيْثُ تَظُنُّنِي أَبْغِي بِهَا بَدَلًا، وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَهُمْ يَحْسَبُونَ، أَيْ: يَظُنُّونَ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ السَّبْعَةِ بِكَسْرِ السِّينِ، وَبَعْضُهُمْ بِفَتْحِهَا كَمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَمَفْعُولَا: {حَسِبَ} هُمَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ اللَّذَانِ عَمِلَتْ فِيهِمَا أَنَّ وَالْأَصْلُ وَيَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ مُحْسِنِينَ صُنْعَهُمْ، وَقَوْلُهُ: {صُنْعًا} أَيْ: عَمَلًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {يَحْسَبُونَ} وَ{يُحْسِنُونَ} الْجِنَاسُ الْمُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ تَجْنِيسَ التَّصْحِيفِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّقْطُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ، كَقَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ:
وَلَمْ يَكُنِ الْمُغْتَرُّ بِاللَّهِ إِذْ سَرَى ** لِيُعْجِزَ وَالْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ طَالِبُهُ

فَبَيْنَ الْمُغْتَرِّ وَالْمُعْتَزِّ الْجِنَاسُ الْمَذْكُورُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} الْآيَةَ [18/ 105]، نَصٌّ فِي أَنَّ الْكُفْرَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ يُحْبِطُ الْعَمَلَ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْعَنْكَبُوتِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [29/ 23]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَسَيَأْتِي بَعْضُ أَمْثِلَةٍ لِذَلِكَ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [18/ 105]، فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ تُوزَنُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى فِي مُقَابَلَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، بَلْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا السَّيِّئَاتُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [23/ 103- 104]، وَقَالَ: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} الْآيَةَ [7/ 8- 9]، وَقَالَ: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا نَارٌ حَامِيَةٌ} [101/ 8- 10]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا: أَنَّهُمْ لَا قَدْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ لِحَقَارَتِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [40/ 60]، أَيْ: صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ حَقِيرِينَ، وَقَوْلِهِ: {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [37/ 18]، وَقَوْلِهِ: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [23/ 108]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَوَانِهِمْ وَصَغَارِهِمْ وَحَقَارَتِهِمْ.
وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ يَدْخُلُ فِيهِ الْكَافِرُ السَّمِينُ الْعَظِيمُ الْبَدَنِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَءُوا فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا» وَعَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ مِثْلُهُ اهـ، مِنَ الْبُخَارِيِّ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْكَافِرِ الْعَظِيمِ السَّمِينِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وَزْنِ الْأَشْخَاصِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ ذَمُّ السِّمَنِ لِمَنْ تَكَلَّفَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكَلُّفِ الْمَطَاعِمِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا عَنِ الْمَكَارِمِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ، الْمُبْتَغَى بِهِ التَّرَفُّهُ وَالسِّمَنُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْحَبْرُ السَّمِينُ» وَمِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ، فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ إِنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» وَهَذَا ذَمٌّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ السِّمَنَ الْمُكْتَسَبَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشَّرَهِ وَالدَّعَةِ وَالرَّاحَةِ وَالْأَمْنِ، وَالِاسْتِرْسَالِ مَعَ النَّفْسِ عَلَى شَهَوَاتِهَا، فَهُوَ عَبْدُ نَفْسِهِ لَا عَبْدُ رَبِّهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ فِي الْحَرَامِ، وَكُلُّ لَحْمٍ تَوَلَّدَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [47/ 12]، فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ، وَيَتَنَعَّمُ تَنَعُّمَهُمْ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ وَأَزْمَانِهِ، فَأَيْنَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَثُرَ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ كَثُرَ نَهَمُهُ وَحِرْصُهُ، وَزَادَ بِاللَّيْلِ كَسَلُهُ وَنَوْمُهُ، فَكَانَ نَهَارَهُ هَائِمًا، وَلَيْلَهُ نَائِمًا اهـ، مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ، وَمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ مِنَ الْجَزْمِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ» فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مَرْفُوعًا، وَقَدْ حَسَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ كَلَامِ كَعْبٍ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ ذَمِّ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالسِّمَنِ الْمُكْتَسَبِ ظَاهِرٌ وَأَدِلَّتُهُ كَثِيرَةٌ «وَحَسْبُ الْمُؤْمِنِ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَالْإِيمَانَ سَبَبٌ فِي نَيْلِ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ، وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِكَوْنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ سَبَبًا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [18/ 2- 3]، وَقَوْلِهِ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [7/ 43]، أَيْ: بِسَبَبِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [43/ 72]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} الْآيَةَ [19/ 60- 61]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
تَنْبِيهٌ:
فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الِآيَاتُ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ سَبَبٌ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ»، يَرِدُ بِسَبَبِهِ إِشْكَالٌ عَلَى ذَلِكَ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا إِذَا تَقَبَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَقَبُّلُهُ لَهُ فَضْلٌ مِنْهُ، فَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ هُوَ الَّذِي تَقَبَّلَهُ اللَّهُ بِفَضْلِهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَوْجُهٌ أُخَرُ، هَذَا أَظْهَرُهَا عِنْدِي، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ النُّزُلَ، هُوَ مَا يُهَيَّأُ مِنَ الْإِكْرَامِ لِلضَّيْفِ أَوِ الْقَادِمِ.

.تفسير الآية رقم (108):

{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}.
أَيْ: خَالِدِينَ فِي جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، أَيْ: تَحَوُّلًا إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهَا لَا يُوجَدُ مَنْزِلٌ أَحْسَنُ مِنْهَا يُرْغَبُ فِي التَّحَوُّلِ إِلَيْهِ عَنْهَا، بَلْ هُمْ خَالِدُونَ فِيهَا دَائِمًا مِنْ غَيْرِ تَحَوُّلٍ وَلَا انْتِقَالٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} [35/ 35]، أَيِ: الْإِقَامَةِ أَبَدًا، وَقَوْلِهِ: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [18/ 2- 3]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [38/ 54]، وَقَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [11/ 108]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى دَوَامِهِمْ فِيهَا، وَدَوَامِ نَعِيمِهَا لَهُمْ، وَالْحِوَلُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّحَوُّلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}.
أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {أَنْ يَقُولَ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [18/ 109]، أَيْ: لَوْ كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ مِدَادًا لِلْأَقْلَامِ الَّتِي تَكْتُبُ بِهَا كَلِمَاتُ اللَّهِ: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ} أَيْ: فَرَغَ وَانْتَهَى قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، أَيْ: بِبَحْرٍ آخَرَ مِثْلِهِ مَدَدًا، أَيْ: زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {مَدَدًا} مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَيَصِحُّ إِعْرَابُهُ حَالًا، وَقَدْ زَادَ هَذَا الْمَعْنَى إِيضَاحًا فِي سُورَةِ لُقْمَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [31/ 27]، وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِهِ تَعَالَى لَا نَفَادَ لَهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.

.تفسير الآية رقم (110):

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [18/ 110]، أَيْ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا غَيْرُ بِشَرٍ، بَلْ أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَيْ: بَشَرٌ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَنِي وَخَصَّنِي بِمَا أَوْحَى إِلَيَّ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَشَرْعِهِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [18/ 110]، أَيْ: فَوَحِّدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ فُصِّلَتْ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [41/ 7- 8]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [17/ 93]، وَقَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} الْآيَةَ [6/ 50]، وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ بَشَرٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا أَوْحَى إِلَيْهِ مِنْ وَحْيِهِ جَاءَ مِثْلُهُ عَنِ الرُّسُلِ غَيْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الْآيَةَ [14/ 11]، فَكَوْنُ الرُّسُلِ مِثْلَ الْبَشَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَصْلَ الْجَمِيعِ وَعُنْصُرَهُمْ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمْ تَجْرِي عَلَى جَمِيعِهِمُ الْأَعْرَاضُ الْبَشَرِيَّةُ لَا يُنَافِي تَفْضِيلَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ بِمَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وَاصْطِفَائِهِ وَتَفْضِيلِهِ كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فَمَنْ زَعَمَ مِنْكُمْ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ، فَإِنَّنِي لَا أَعْلَمَ الْغَيْبَ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ كَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَهَذَا لَهُ اتِّجَاهٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [18/ 110]، يَشْمَلُ كَوْنَهُ يَأْمُلُ ثَوَابَهُ، وَرُؤْيَةَ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَوْنَهُ يَخْشَى عِقَابَهُ، أَيْ: فَمَنْ كَانَ رَاجِيًا مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ وَالسَّلَامَةَ مِنَ الشَّرِّ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَغَيْرِ الصَّالِحِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَغَيْرِهَا، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَيْ: لَا يُرَائِي النَّاسَ فِي عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ لِأَجْلِ رِيَاءِ النَّاسِ مِنْ نَوْعِ الشِّرْكِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الرِّيَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ، وَقَدْ سَاقَ طَرَفَهَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [18/ 110]، أَعَمُّ مِنَ الرِّيَاءِ وَغَيْرِهِ، أَيْ: لَا يَعْبُدُ رَبَّهُ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ خَالِقِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الْآيَةَ [4/ 48]، فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَيَقُولُ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [22/ 31]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِي يُشْرِكُ أَحَدًا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَلَا يَعْمَلُ صَالِحًا أَنَّهُ لَا يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ، وَالَّذِي لَا يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ لَا خَيْرَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَهَذَا الْمَفْهُومُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا مَضَى قَرِيبًا:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ} الْآيَةَ [18/ 105- 106]؛ لِأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِلِقَاءِ اللَّهِ لَا يَرْجُو لِقَاءَهُ، وَقَوْلِهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} [29/ 23]، وَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [7/ 147]، وَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [6/ 31]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي يُونُسَ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [10/ 45]، وَقَوْلِهِ فِي الْفُرْقَانِ: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [25/ 21]، وَقَوْلِهِ فِي الرُّومِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [30/ 16]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
تَنْبِيهٌ:
{اعْلَمْ أَنَّ الرَّجَاءَ كَقَوْلِهِ هُنَا يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [18/ 110]، يُسْتَعْمَلُ فِي رَجَاءِ الْخَيْرِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَوْفِ أَيْضًا، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي رَجَاءِ الْخَيْرِ مَشْهُورٌ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الرَّجَاءِ فِي الْخَوْفِ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يُرْجَ لَسْعُهَا ** وَحَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَاسِلُ

فَقَوْلُهُ لَمْ يُرْجَ لَسْعُهَا أَيْ: لَمْ يُخَفْ لَسْعُهَا، وَيُرْوَى حَالَفَهَا بِالْحَاءِ وَالْخَاءِ، وَيُرْوَى عَوَاسِلُ بِالسِّينِ، وَعَوَامِلُ بِالْمِيمِ.
فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجَاءَ يُطْلَقُ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، فَمَنْ كَانَ يَرْجُو مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ يَخَافُ مَا لَدَيْهِ مِنَ الشَّرِّ كَالْعَكْسِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} الْآيَةَ [18/ 110]، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جُنْدُبِ بْنِ زُهَيْرٍ الْأَزْدِيِّ الْغَامِدِيِّ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّنِي أَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى وَأُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَلَا يَقْبَلُ مَا شُورِكَ فِيهِ» فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ: أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَضَعْفُ هَذَا السَّنَدِ مَشْهُورٌ،
وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَكَانِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَتَصَدَّقُ وَأَصِلُ الرَّحِمَ، وَلَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَيُذْكَرُ ذَلِكَ مِنِّي، وَأُحْمَدُ عَلَيْهِ فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ، وَأُعْجَبُ بِهِ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [18/ 110]، انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَعَلَهُ لِلَّهِ وَلَوْ سَرَّهُ اطِّلَاعُ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ سُرُورُهُ بِذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ فِيهِ، وَمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْإِخْلَاصِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَقِفُ مَوَاقِفَ أَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنَّ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْصُولًا عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَاتِلُ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى مَكَانُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مِنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ جُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ إِذَا صَلَّى أَوْ صَامَ أَوْ تَصَدَّقَ فَذُكِرَ بِخَيْرٍ ارْتَاحَ لَهُ، فَزَادَ فِي ذَلِكَ لِمَقَالَةِ النَّاسِ فَلَامَهُ اللَّهُ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وَأَخْرَجَ هَنَّادٌ فِي الزُّهْدِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ وَأَلْتَمِسُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لِي خَيْرٌ، فَنَزَلَتْ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ اهـ، مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.سُورَةُ مَرْيَمَ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآية رقم (1):

{كهيعص (1)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: {كهيعص} [19/ 1]، فِي سُورَةِ هُودٍ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [19/ 2]، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا ذِكِرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ كهيعص ظَاهِرُ السُّقُوطِ لِعَدَمِ رَبْطٍ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُ: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ لَفْظَةُ: {ذِكْرُ} مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَلَفْظَةُ: {رَحْمَةٍ} مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ وَهُوَ: {رَبِّكَ}، وَقَوْلُهُ: عَبْدَهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ: {رَحْمَةِ} الْمُضَافُ إِلَى فَاعِلِهِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ كَمِّلْ بِنَصْبٍ أَوْ بِرَفْعٍ عَمَلَهْ وَقَوْلُهُ: {زَكَرِيَّا} بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: {عَبْدَهُ} أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ هَذَا الَّذِي يُتْلَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ رَحْمَتَهُ الَّتِي رَحِمَ بِهَا عَبْدَهُ زَكَرِيَّا حِينَ نَادَاهُ نِدَاءً خَفِيًّا أَيْ: دَعَاهُ فِي سِرٍّ وَخُفْيَةٍ، وَثَنَاؤُهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِ بِكَوْنِ دُعَائِهِ خَفِيًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهِ وَإِعْلَانِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} الْآيَةَ [6/ 63]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [7/ 55]، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِظْهَارِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ إِخْفَائِهِ دُعَاءَهُ أَنَّهُ خَوَّفَهُ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَلُومُوهُ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ، فِي حَالَةٍ لَا يُمْكِنُ فِيهَا الْوَلَدُ عَادَةً لِكِبَرِ سِنِّهِ وَسِنِّ امْرَأَتِهِ، وَكَوْنِهَا عَاقِرًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَخْفَاهُ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، فَإِنْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِيهِ نَالَ مَا كَانَ يُرِيدُ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَحَدٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ، كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْأَظْهَرِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السِّرَّ فِي إِخْفَائِهِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْإِخْفَاءِ أَفْضَلَ مِنَ الْإِعْلَانِ فِي الدُّعَاءِ، وَدُعَاءُ زَكَرِيَّا هَذَا لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَكَانَهُ وَلَا وَقْتَهُ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [3/ 37- 38]، فَقَوْلُهُ: {هُنَالِكَ} أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَ فِيهِ ذَلِكَ الرِّزْقَ عِنْدَ مَرْيَمَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {هُنَالِكَ} أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ هُنَا رُبَّمَا أُشِيرَ بِهَا إِلَى الزَّمَانِ، وَقَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ هَذَا: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [19/ 4]، أَيْ: ضَعُفَ، وَالْوَهْنُ: الضَّعْفُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ضَعْفَ الْعَظْمِ؛ لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ وَبِهِ قِوَامُهُ، وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ فَإِذَا وَهَنَ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ جَمِيعِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا فِيهِ وَأَصْلَبُهُ، فَوَهْنُهُ يَسْتَلْزِمُ وَهْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَدَنِ.
وَقَوْلُهُ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الرَّأْسِ قَامَا مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، إِذِ الْمُرَادُ: وَاشْتَعَلَ رَأْسِي شَيْبًا، وَالْمُرَادُ بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا: انْتِشَارُ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِيهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ: شَبَّهَ الشَّيْبَ بِشُوَاظِ النَّارِ فِي بَيَاضِهِ وَإِنَارَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الشِّعْرِ وَفُشُوِّهِ فِيهِ، وَأَخْذِهِ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعَالِ النَّارِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ أَسْنَدَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ، وَأَخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيِّزًا، وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأْسُ زَكَرِيَّا، فَمِنْ ثَمَّ فَصُحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَشُهِدَ لَهَا بِالْبَلَاغَةِ انْتَهَى مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَنَا كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا: أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ انْتِشَارِ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ، بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ضَيَّعْتُ حَزْمِي فِي إِبْعَادِي الْأَمَلَا ** وَمَا ارْعَوَيْتُ وَشَيْبًا رَأْسِيَ اشْتَعَلَا

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ.
وَاشْتَعَلَ الْمِبْيَضُ فِي مُوَسَّدِهِ ** مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا

وَقَوْلُهُ: {شَيْبًا} تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ فِي أَظْهَرِ الْأَعَارِيبِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَاشْتَعَلَ} لِأَنَّهُ اشْتَعَلَ بِمَعْنَى شَابَ، فَيَكُونُ: {شَيْبًا} مَصْدَرًا مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَمَنْ زَعَمَ أَيْضًا أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا عَنْ زَكَرِيَّا فِي دُعَائِهِ مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ هُنَا: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [19/ 8]، وَقَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} الْآيَةَ [3/ 40]، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إِظْهَارُ الضَّعْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالْخُشُوعِ فِي دُعَائِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [19/ 4]، أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ شَقِيًّا، أَيْ: لَمْ تَكُنْ تُخَيِّبُ دُعَائِي إِذَا دَعَوْتُكَ، يَعْنِي أَنَّكَ عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: شَقِيَ بِذَلِكَ إِذَا تَعِبَ فِيهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ، وَرُبَّمَا أَطْلَقْتَ الشَّقَاءَ عَلَى التَّعَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [20/ 117]، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ السَّعَادَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ مِنَ السَّعَادَةِ، فَيَكُونُ عَدَمُ إِجَابَتِهِ مِنَ الشَّقَاءِ.